محسن العزوبي ” مرثية العرب” في قراءة يقدمها ماجد الدبيس

قراءة في كتاب ” مرثية العرب” للدكتور الشاعر والفيزيائي الاردني محسن العزوبي
بقلم: ماجد الدبيس
جوانب من حياته:
عاش محسن العزوبي في منطقة نائية بعيدة عن الواجهات الثقافية والأدبية في غور شمال الاردن، لكنه كان يتصف بالذكاء العلمي والأدبي، فقد حاز على درجة الدكتوراه في الفيزياء النووية، وتعلم اللغة العربية وأبحر في الشعر العربي، وتجاوز في نظمه للشعر الكثير من الشعراء في العصر الحديث، فيما اضاف بحراً جديداً إلى بحور الشعر وأسماه بحر العزوبي.
تعرض العزوبي للتعذيب والضرب أثناء دراسته خارج البلاد؛ بسبب المعادلات العلمية التي حصل عليها اثناء دراسته للفيزياء النووية؛ ومحاولة سرقة هذه المعادلات.كما تعرض هنا في موطنه إلى معاناة شديدة من الحرمان والفقر وعدم حصوله على وظيفة مناسبة يقتات منها، فيما كان جاداً في البحث عن عمل لا يتجاوز اختصاصه، غير أنه لم يكن محظوظاً.
عاش العزوبي هذه المراحل المؤلمة في حاته وشاهداً على المعاناة التي لاقتها اخته من ضنك العيش والفقر، إلى أن توفاها الله عز وجل.وعليه فإن الشاعر العزوبي ألف كتابه”مرثية العرب” بقصيدة مكونة من مائتين وسبعة وعشرين بيتاً رثى فيها أخته شهية واصفاً مناقبها وصفاتها وقوة تحملها وصبرها على ما لاقت من الضنك والمعاناة.
أعتمد الشاعر في قصيدته على إحياء الألفاظ المستخدمة في الشعر العربي القديم، وذلك بشرح القصيدة كاملة في الحواشي وعلى لسانه، ذاكراً الدليل على استخدام هذه الألفاظ في أبيات من الشعر العربي لعددٍ من فحول الشعراء العرب، حسب ما وردت هذه الألفاظ في قصائدهم، بالإضافة لشرح المعنى المراد من الأبيات وتوضيح مراميها، ويعتمد أيضاً على ذكر بعض الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية الشريفة؛ في توضيح بعض ما يذهب إليه الشاعر من مكنوناتٍ واستخدامٍ للألفاظ.
أطلق الشاعر العزوبي على هذه القصائد اسم “القصائد المئينية” وهي التي تتكون من مئة بيت من الشعر أو أكثر، حيث تمتاز بالنفس الطويل في هذا المجال بالإضافة إلى المعاني الجزلة، والالفاظ الرصينة، والصور الشعرية الجميلة، والنصوص المتماسكة.
أما القصيدة”مرثية العرب”والتي يرثي فيها شقيقته كان مطلعها:
فُجعنا بالمصاب المستديـــمِ فقد رُدّ الحبيبُ إلى العظيم
أقمنا بالصلاةِ على الحبيبِ وأتبعنا الصلاة على الحميمِ
يقول ويشرح…
يذهب الشاعر بنا بعيداً أثناء شرحه للأبيات الشعرية، حيث يربط كل بيت من قصيدته بما يناسبه من آيات كريمة أو أحاديث نبوية شريفة، أو من نصوص شعرية لفحول الشعراء العرب، فيما يُبرز في ذلك قوة دليله على استخدام الألفاظ والصور الشعرية المنتقاة؛ لكي تصل إلى القارئ بشكل مقنع وسهل، فيما يستمتع القارئ بالأسلوب الجميل والمسترسل في القصيدة بأوزانها وقوافيها.
وبعد أن تلقَّى خبر وفاة شقيقتهِ أصابه الحُزن وملأت عينيه الدموع على فراقها؛ التي تركت فراغاً كبيراً في حياته فيقول:

وقد نُهنِهتُ حتى تاه خطوي فهل يبدو السقيمُ كما السليمِ
وبتنا والسماءُ بها صفـــــاءٌ وأصبحنا كأعشى في العتيمِ
كأن الصُّبحَ صَبَّحنا كُسُوفـاً فأضحينا بليــــــــــلٍ مدلهيمِ
إلى أن يقول:
وودعنـــا بجُمعتِنا حبيبــــــاً وكبّر للصلاة على الكريـم
ووَدعتْ السمـاءُ جليسَ خيرٍ وكان البرقُ يطربُ للهزيمٍ
لقد واروا الترابَ حبيبَ قلبٍ فأُبْدِلْتُ السعادَةَ بالشؤُومِ
وقد وصف الشاعر اخته بأنها الظل الذي كان يأوي إليه عندما يزداد الخطب فيقول:
وإنَّكِ يــا “شهيــةُ” خَيرُ ظـلٍّ إذا ما الحَرُّ أُضرمَ بالهشيـمٍ
فكنتِ الشمسَ تجلي الليلَ عنّي وتهدي بالظلامِ وبالسُّحــومِ
لقـــــد كنتِ بديلاً عن أبينــــــا وكان الحَنْوُ كالأمِّ الــرؤوم
فيما يتحدث الشاعر عن الذين كرهوا أهل العلم والمبدعين لدرجة أنه يتمنى أن يُلقى بهم وبأفعالهم في جهنم فيقول:
كرهتَ المبدعينَ فعدتَ تُلقى كريم الفعلِ آتون الخطــوم
فصيّرتَ المودةَ فيكَ غيظـــاً لكي تنأى وتصبحَ كالغريمِ
ثم يصف الشاعر نفسه بأنه عميداً للعلم بين أقرانه، فيما يجب عليهم أن يدعموه لنبوغه العلمي والأدبي، لكنهم لاحقوه بجهلهم وحقدهم وحسدهم، ولكن شاعرنا تَرَفّعَ عن ذلك حيث يقول:
ترفعنـــــا عن الدنيـــا بعلمٍ فجاءتنـــا الجهالــــةُ بالعقيمِ
لقـــد عقوا لجَهلِهِمُ عميـــداً لأهل العلـــــم يجنحُ بالعلومِ
فحكمُ الحاسدينَ يجيءُ ذمّاً كَحكمِ الجاهلينَ على الفَهيمِ
كما أنّ الشاعر الذي سافر إلى اوروبا ليبتغي العلم، وجد كثيراً من الصعاب والأمراض والخبث والشراسة؛ ولكن الذي لاقاه من المقربين منه كان أكثر من ذلك حسب وصفه فيقول:
وخَالَطتُ الفرنجةَ في بلادٍ بها الآفاتُ تزخرُ بالعُـــــرُوم
فلمْ القَ شبيـهَ سفيهِ قومِي بمن عايشتُ مِنْ عُرْبٍ ورُوم
أما المرثية “شهية” فقد ذكر لها من المآثر والمحامد التي يشهد لها الجيران من كل العائلات في تلك القرية، حيث يذكر أسماء العائلات بشكل صريح ( العبيدي، والزبيدي، والدعوم)في قصيدته دلالة على حسن المعشر والجيرة والتفافهم حوله ومساندتهم له فيقول:
وإنكِ يا شهيةُ خيرُ أختٍ إذا ما الجوُّ لُبِّدَ بالغُيــــــــــوم
لقد حَمَدَ المآثرَ كـُـلُّ جارٍ عبيْديٍّ زُبيْديٍّ دعُـــــــــــومِي
كما شَهِد الكرامُ بكلِّ حَيّ بأن قُدْتِ النصيحـــــةَ للحكيمِ
فلولا الغيثُ يَسقيـه بحكمٍ لأقسمَ أن يصومَ متى تَصُومي
سَأُهديكِ القوافي رائعاتٍ مرصَّعةً كمـــــــا العِقدِ النَظيمِ
سأَرثيكِ كمــا أرْثِي بلاداً أضاعوهـــــا فــــــداءً للزعيم
اعتاد العزوبي على حنان أخته وعطفها حيث ترتاح نفسه عند لقائها وهذا دليل على التقاء الأرواح المتآلفة والقلوب السليمة المفطورة على الحب والمودة والحنان فيقول:
ومن يألف حُنوَّ الأخْتِ ينْسَ شديدَ البـرحِ والجرح الأليمِ
إذا ما غبتُ تطلبني بشــوقٍ كمرضعةٍ تحـنُ إلى الفطيمِ
فإنكِ قـد ملكتِ زمامَ روحي وطيْفكِ قدْ تلبَّسَ في هُدُومي
وكان العزوبي قد حدثَ له أمرٌ أثناء دراسته في جامعة ميونخ التكنولوجية بألمانيا، حيث تعرضت بعض أعماله العلمية للسرقة من قبل أحد الأساتذة اليهود وزميل له ألماني – حسب ما ورد في كتابه- وهي عبارة عن معادلات تتعلق بالفيزياء النووية، ثم أعتقل ووضع في سجن “شتادلهايم” في مدينة ميونخ، حيث تعرض للتعذيب، ولم يجد من يناصره في بلده، ولا من المقربين منه ولا حتى من المسؤولين في الدولة، سوى شقيقته المرثية، هذا رغم تناول الصحف المحلية لقضيته وبإسهاب ورغم معرفة القاصي والداني بما جرى له، حيث يقول:
أرحتُ النفسَ حين عرفتُ أختي تفوق القائمين على الحكوم
سلامٌ يا أخيّة ســوف أبقى إلى ما عشتُ فوق المطرخيمِ
حيث ينهي قصيدته معبراً عن الآلام الشديدة التي بداخله والتي خرجت بهذا الشعر الجميل النابع من تلك الجروح الدامية الدائمة، التي خلّفها فقده لشقيقته المرثية، حيث يقول:
فمنْ يقرأ جميلَ الشعر يعلمْ بأنَّ الشعرَ يفصحُ عن كُلوم
سألتُ الله يجمعنــا بيــومٍ وفي الجناتِ يا أختَ اليتيـمِ
وفاته:
ولكن الشاعر لم يعشْ طويلا بعد ذلك فقد لحق بأخته المرثية بعد أن أصيب بمرض عضال. رحم الله الشاعر والعالم الفيزيائي الاردني الدكتور محسن العزوبي.
قالوا في العزوبي:
فيما يروي بعض ممن كانت علاقتهم بالعزوبي عن قرب تصل إلى درجة الأخوة والصداقة،حيث تبادل الأفكار في كثير من القضايا العامة، وقضايا الأدب والشعر وغيرها، يروي الدكتورجمال ابو نعاج أحد اصدقائه بالحي الذي عاش فيه عن بعض جوانب شخصية الدكتور العزوبي فيقول:
“الحديث عن جوانب شخصية الدكتور محسن العزوبي من جوانب مختلفة، في الجانب العلمي: كان كثير الاعتزاز بالمستوى العلمي الذي حققه في مجال تخصصه في الفيزياء النووية؛ التي كانت عليه وبالاً في ألمانيا، حيث كان ضحية أستاذه من أصل يهودي، وقد أُعتقل وضُربَ على رأسه وعُذِّب جَرّاء نظرياته في الفيزياء النووية، تخوفاً من انعكاس فائدتها على الوطن العربي. وقد أقرأني – رحمه الله- بعض الصحف التي تحدثت عن الاعتقال والتعذيب. وقد خُيِّرَ بين إقامة دائمة في أمريكا والعمل فيها في مجال تخصصه، أو مستقبل مجهول محفوف بالمخاطر، وكان ما كان وذكرته سابقاً.
كما كان الدكتور العزوبي سخياً في الكتابة والإبداع، والتأليف، وقد ترك بعض آثاره الأدبية، منها مرثية العرب، والتي تضمنت رثاءً خاصاً وعاماً، في آن تجلت في المرثية لغة إبداعية عالية حاكى فيها فحول الشعراء لغةً وأسلوباً.
أما في الجانب الاقتصادي، عاش الرجل فقيراً زاهداً لا يملك قوت يومه، وكان له بعض أقربائه المغتربين يساعدونه فيما يلزم من كفاف العيش.
في الجانب السياسي، مذهب الدكتور قومي، محب لدينه ووطنه. وفي الجانب الاجتماعي: لدى الدكتور من الصفات الخُلقية والذكاء الاجتماعي ما جعله محبوباً وقريباً من جميع محبيه.
وقد كانت لي مع الدكتور محسن، صحبة وصداقة وبالغ الود، انعكست في دوام الزيارات العائلية والحوارات العلمية والثقافية والاستشارات اللغوية، في مجال التأليف والإبداع. وفي كلمة أخيرة أقول:أن المرحوم الدكتور محسن العزوبي لم ينصف حياً ولا ميّتاً، رغم أنه قامة علمية وإبداعية”.